عدنان بن عبد الله القطان

20 محرم 1444 هـ – 18 أغسطس 2022 م

———————————————————————————

 

الحمد لله، لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منَع، نحمده سبحانه ونشكره، فضلُه مرتَجَى وفي عفوِه الطّمَع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، منَح الخيرَ وللمكروه دفع، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمَّداً عبده ورسوله دَعا إلى الحقّ وجاهَد في الله وأشاد منارَ الإسلام ورفع، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابِه أهلِ الإيمان والرّضا والتّقى والورَع، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يومِ الدين، وسلّم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمن، أن جعل كل أمره يحمل له الخير العميم ويسعد به، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن الصابر المحتسب، بشرط أن يشكر الله عز وجل عندما يأتيه ما يسره، ويصبر ويحتسب عندما يصيبه ما يضره، يقول صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْراً له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْراً له)

عباد الله: إنَّ الحياة الدنيا طُبِعت على البلاء والمواجع، والمِحَن والفواجع، هذه حقيقة قرَّرَتها آياتُ التَّنزيل العزيز، يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ويقول جل وعلا: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) فهذه الدَّارُ العاجلة، لذَّاتُها منغَّصَةٌ بكَدَر، وسرورها مشوبٌ بحزن.

طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا

                                     صَفْواً مِنَ   الأَقْذَارِ   وَالأَكْدَارِ

ومكلِّـفُ الأيـام ضـد طباعِهـا

                                     مُتًطلِّـبٌ فـي المـاء جـذوة نــارِ

ومن نقائص هذه الحياة ومنغّصاتها: ما قدَّره الله عز وجل على أهلها مِن الأمراض والأسقام والأوجاع والآلام والأوبئة والأدواء. حياةُ العلَّة والاعتلال والمرض قدَرٌ مكتوبٌ، وكأسٌ مشروبٌ، وزائرٌ ثقيلٌ غيرُ مرغوب، فما من مخلوقٍ إلا وهو مُعرَّض لهذا البلاء، قلَّ ذلك أو كثُر، صغُر أم كبر، أمراضٌ وأمراض، تكتسحُ الأبدان، وتُوهِنُ الأجسام، وعالَم اليوم بمادياته ومتغيراته، قد زاد مِن انتشار هذه الأسقام، حتَّى أصبحت أخبارُ الأمراض وأنواعها ودرجاتها حديثًاً دائماً بين الناس، وهاجساً ماثلاً أمامهم؛ فجديرٌ بأهل الإيمان أن ينظروا إلى هذه الأدواءِ بعين البصيرة، ومنظار الرِّسالة، ما يَزيدهم إيماناً وقربةً، وسكينةً ورضاً. يا مَن ترفُلُون في ثياب الصِّحة والعافية زادكم الله من ذلك وبَسَط، اعلموا رحمكم الله أنَّ هذه الأمراضَ لهي آيةٌ من آيات الله في خلقه، وكمال قدرته على عبده… فهذا الإنسان بينما هو يرفُلُ في كمال صحته، وعُنْفُوان عافيته، مفتولَ البِنْية، بهيَّ الطلعة، إذ حلَّ به المرض فتغيَّرت حالتُه، وخارتْ قوتُه، وبانَتْ علَّتُه وضعُفَت بِنْيَتُه، وظهر أنينُهُ، ويَبُسَ جبينُهُ، فسبحان مَن غيَّر الحال وبدَّل الشَّان وأظهر ضعف الإنسان وعجزه وفقره.

أيها الأخوة والأخوات في الله: إنَّ هذه الأمراض والأسقام يوم تجثُم على صدور أهلها كأنما تُخاطبهم بقول الله عز وجل: (لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وبقوله سبحانه: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) تُخاطبهم: أنَّ الإنسان مهما اغترَّ وطغَى، وأعرَضَ وبغَى، فليس بمُعجِزٍ في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير، هذه هي الرِّسالة الأولى التي ينبغي أن تُفقَه وتستقر في الأذهان والأفهام. إنَّ هذه الأمراضَ والعلل هي أكبر برهان على ضعفِ المخلوق وعجزه وقلِّة حيلته.

يا أهلَ الإيمان: إنَّ من المُقرَّر شرعاً: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّاً محضاً، وأن قدر الله فيه من النفع والخيريَّة ما يغيبُ عن نظرة البشر السَّطحية الدونية؛ فهذه الأمراض والعلل وغيرها من الابتلاءات، وإن كانت محذورة ومُرَّة، إلا أنَّ فيها من المِنَح والخير ما يخفى على البعض سرُّها، ويغيبُ عنهم أجرُها، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (من يُرِد الله به خيراً يُصبْ منه) أي: يصب منه بالمرض المؤثر في صحته، وأخذ المال المؤثر في غناه والحزن المؤثر في سروره، والشدة المؤثرة في صلاح حاله، فإذا صبر واحتسب كان ذلك سبباً لما أراده الله تبارك وتعالى به من الخير.

عباد الله: إن سألتم عن أعظم مكاسب المرض وأهمِّ أسراره، فهي تلك النَّقلة التي يُحدِثُها المرض على صاحبه في إصلاح نفسه، وتهذيب ضميره، هذه الأمراضُ تَكسِر كأسَ الهوى الجاثمَ على الصُّدور، وتسوق صاحبَها سوقًاً إلى المحاسبة والتَّوبة، والإنابة والأوبة. فكم من ضالٍّ ما عَرَف طُرق الهداية إلاَّ بعد أن طَرَقَته الأمراض! وكم من مُجاهرٍ بالذنوب والمعاصي ما تخلَّص من الكبائر إلاَّ يوم أن خَلَصتِ الأمراض إليه! وكم من عبدٍ هامَ الحرامُ في خياله، ففكَّر فيه ودبَّر، وجمع له وادَّخَر، فجاورَته الأسقام والأمراض فجعل ما جمعه ووعاه صدقةً يجدها في ديوان حسناته! وصَدَق الله ومَن أصدق مِن الله قيلاً: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: سعادةُ المرء وكرامتُهُ وشرفُهُ بقدرِ تحقيقه لعبودية ربِّه، وفي حال المرض يجتمع للعبد مِن العبودية لله ما لا يجتمع له في غيره.

ترى المريضَ رقيقَ المشاعر، سريعَ الدَّمعة، شديدَ التذلُّل، عظيم الرَّجاء، ملازماً للذِّكْر والدُّعاء، منطَّرحاً بين يدي ربِّه، مُنتظراً فرجَ أرحم الرَّاحمين؛ وصدق الله العظيم: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)

 وإذا اجتمع للعبد صلاحُ نفسٍ، ورجاءُ رحمة، وشكايةُ حالٍ، وانتظارُ فرجٍ فتلك مِن أعلى مقامات العبودية والتذلُّل لله تعالى.

ذاق طعمَ هذه العبودية لله عز وجل، أيوبُ عليه السلام فنادى ربه تبارك وتعالى:

(أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)… أيها المؤمنون: ومن مِنَح المرض ومغانمه وفوائده: أنَّ المريض وإنْ أعجَزَهُ العمل، وأعيَتْه الطاعة، فأجرُهُ محفوظٌ، وثوابُهُ مُدَّخَر؛ والمرض قد يؤثر على العبد المؤمن فيعيقه عن بعض ما كان يفعله من طاعات ولكن الأجر والثواب ما زال سارياً مستمراً، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا مَرِض العبدُ أو سافر، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مُقيماً صحيحاً) ويقول: (إذا ابتَلى اللهُ العبدَ المُسلِمَ ببَلاءٍ في جسَدِه، قال الله للمَلَكِ: الذي يكتب عمله: اكتُبْ لعبدي في كل يوم وليلة مثل ما كان يعمل من الخير ما دام محبوساً في وثاقي، حتى أقبضه- أي يموت في مرضه- أو أطلقه، فإنْ شَفاهُ غَسَلَه وطَهَّرَه، وإنْ قبَضَه غفَرَ له ورَحِمَه). أبشِروا يا من زارَتْهم الأمراض والأسقام، واعتادَتْهم الأوجاع والأوصاب، أبشِروا بفضل الله عليكم، فسيِّئاتُكم الماضية مُنحَطَّة، وخطيئاتُكُم الخالية ذاهبة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (ما يُصيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ، حتَّى الهمُّ يُهمُّه؛ إلاَّ كفَّر اللهُ به من سيِّئاته) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ) ويقول بعض السَّلّف: (لولا مصائبُ الدنيا، لوردنا القيامةَ مفاليس). فهذا المرض إذًاً وما يتبعه من تمحيصٍ وثوابٍ هو بإذن الله سببٌ للرَّاحة الأبديَّة، والسَّعادة السَّرمديَّة في جناتٍ ونهر؛ بل وفي بلوغ درجاتها العُلى. يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّ العبدَ إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ فلم يبلُغْها بعملٍ، ابتلاه اللهُ في جسدِه أو مالِه أو في ولدِه، ثم صبره على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقتْ له من اللهِ عزَّ وجلَّ). وأهل الأمراض أيضاً هم من أقرب الناس إلى ربهم، أحاطت بهم معية خالقهم، ورافقتهم محبة بارئهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ عز وجل إذا أَحَبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ)

أيها المسلمون: أهل الأمراض والأسقام أهلٌ للعطف والحَنان، والرَّحمة والإحسان، فالقُربُ منهم، والإحسانُ إليهم سببٌ لنوال رحمة الله: يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا مَن في الأرضِ يَرحمْكم مَن في السَّماء). وعظُمَ خيرُ ربِّنا لأهل الأمراض وطاب، يوم أن كتب الأجور العظيمة، والحسنات الوفيرة، لمن زارهم وواساهم، وأسمَعَهم من الكلام ما يُخفِّف أوجاعهم وآلامهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: في الحديث القدسي: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَن عادَ مريضاً لم يَزلْ في خُرْفةِ الجنَّة حتَّى يرجع)، قيل: يا رسولَ الله، وما خُرْفة الجنَّة؟ قال: (جَنَاها). أي: يؤول به ذلك إلى الجنَّة واجتناء ثمارها. ويقول عليه الصلاة والسلام (مَن عادَ مَريضاً أو زارَ أخًاً له في الله، ناداهُ منادٍ: أنْ طِبتَ وطابَ ممشاك، وتبوَّأتَ من الجنَّة منزلاً). وبعد عباد الله: فلا يظن مما سبق، أن المرض مطلب منشود، لا وكلا! فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يتمنى البلاء، ولا أن يسأل الله أن ينزل به المرض، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سَلوا اللهَ العفوَ والعافيةَ، فإنَّ أحداً لم يُعطَ بعد اليقينِ خيراً من العافيةِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَا عَمِّ، أَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ)؛ فَانْظُرْ مِقْدَارَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ مِنْ دُونِ الْكَلِمِ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكاَنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْزِلُ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَرَى لَهُّ حَقَّ الْوَالِدِ.

فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعلها عوناً لنا على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد الذي لا يحمد على النعم الوافرة سواه، نحمده سبحانه ونشكره، من توكل عليه كفاه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا نعبد إلا إياه، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أكرمه الله بالرسالة واصطفاه، وأحبه فضعف عليه الوجع وابتلاه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: وتظلُّ الصِّحةُ والعافية مطلباً عزيزاً، وهاجساً ثميناً، ونعمةً لا تُقدَّر بثمن، ولا يحتملها ميزان، وقديماً قالتِ الحكماء: العافية تاجٌ على رُؤوس الأصحَّاء لا يراه إلاَّ المَرِضى. وأصدقُ مِن ذلك وأبلغ: قول المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَن أصبحَ منكم آمناً في سِربِهِ، مُعافًى في جَسده، عندَه قُوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَت له الدُّنيا بحذافيرها)

عبادَ الله: ومع ما في المرض من الخير والمِنَح، فإنَّ المؤمن لا يتمنَّى المرض ولا يسأله كما ذكرنا، ولكن إذا حلَّت به هذه الأقدارُ، فإنَّ المُتعيّن على المؤمن أنْ يتعامل معها بالقدر الشَّرعيِّ الدِّيني. ومن الواجب الشَّرعيِّ تُجاهَ الأمراض: أن يصبر المرءُ على ألمها، ويتصبَّر على لأْوائها، ويحتسب قَدَرَها بعبادة الصَّبر، لا بمعصية الجزع؛ قال الإمام عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن صَبَرتَ، جَرَت عليك المقادير وأنت مأجورٌ، وإن جَزِعتَ، جَرَت عليك المقاديرُ وأنت مأزورٌ). عباد الله: ومن الواجب تُجاهَ الأمراض: عدمُ سبِّها وشَتمها؛ فلا يجوز وصفُ المرض بأنَّه لعينٌ أو خبيثٌ، أو أيّ نوعٍ من أنواع السبِّ، فهذا نوعٌ من سبِّ الأقدار؛ وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم للصحابية أمِّ السَّائب رضي الله عنها حين سمعها تشتكي الحُمَّى، وتقول: لا بارك الله فيها قال لها عليه الصلاة والسلام: (لا تسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّها تُذهِبُ خطايا بني آدم، كما يُذهِبُ الكيرُ خَبَثَ الحديد)

ومن الواجب حالَ المرض: إحسانُ الظنِّ بالله، وتعلُّق القَلب به رجاءً وتذلُّلاً ومسكنةً، مع الاستيقان أنَّه لا كاشفَ للضُرِّ، ولا دافعَ للبأس إلاَّ ربُّ النَّاس.

 

يَا صَاحِبَ الْهَمِّ إِنَّ الْهَمَّ مُنفَرِجٌ

                                        أَبْشِرْ بِخَيرٍ فَإِنَّ   الْفَارِجَ   اللهُ

الْيَأْسُ يَقْطَعُ   أَحْيَانًا   بِصَاحِبِهِ

                                       لا  تَيْأَسَنَّ   فَإِنَّ   الْكَافِيَ   اللهُ

اللهُ يُحْدِثُ  بَعْدَ  الْعُسْرِ  مَيْسَرَة

                                       لا  تَجْزَعَنَّ  فَإِنَّ   الصَّانِعَ   اللهُ

إِذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاللهِ وَارْضَ بِهِ

                                       إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللهُ

واللهِ مَا لَكَ غَيْرُ اللهِ مِنْ أَحَدٍ

                                              فَحَسْبُكَ اللهُ فِي كُلٍّ لَكَ اللهُ

  عباد الله: ومن المشروع فعلُهُ مع الأمراض: الأخذُ بالأسباب الحِسِّيَّة من التَّداوي والعلاج، فهذا من استدفاع القَدَر بالقَدَر، لا يُنافِي التوكُّلَ على الله… ومِن الأدوية التي نطق بها الشَّرع، وصَدَّقها الواقع والتَّجرِبة: استدفاعُ المرض بالصَّدقات؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (داووا مَرْضاكم بالصَّدقة) ومنها الرقية الشرعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يجب على المريض أن يحافظ على أداء الصلوات حسبما يتيسر له، فلا يجوز له ترك الصلوات بأي حال من الأحوال، بل يجب على المكلف أن يحرص على أداء الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، مادام عقله ثابتاً، صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب،  حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين للزم فعلها؛ و(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ) وممَّا ينبغي ذِكرُهُ وتَذكُّرُه مع الأمراض: أنْ يحرِصَ المريض على كتابة وصيته، وتتأكَّدُ وتجبُ إذا كانت عليه حقوقٌ للعباد، فتجبُ كتابةُ الوصية حِفظاً للحقوق وصيانةً لعِرْضِ المريض ودِينه. وأخيراً، أخي المسلم أختي المسلمة: إذا نزل بكم المرضُ وكلنا عُرضةٌ لهذا البلاء فإيَّاكم، ثم إيَّاكم أن تجعلوه سبباً لعصيان الله بالقنوط من رحمة الله، أو سوء الظنِّ بالله، أو بالاستعانة بالسَّحرة والمُشعوذِين والكهنة والدجالين، طلباً للشِّفاء والاستشفاء.. وتيقن يا عبد الله أن دينك يعلمك أنه ما نزل داء إلا ونزل في أثره الدواء، وأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمراض والعلل فيما حرم على العباد إتيانه، كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم في الدين والبدن والأهل والولد والمال وأن يمتعنا بقوانا متاعاً حسناً إنه على كل شيء قدير.

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، إذا أردت شيئاً إنما تقول له كن فيكون. نسألك يا سامعاً لكل شكوى، ويا عالماً بكلّ نجوى.

يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة. يا فارج الهمّ ويا كاشف الغمّ، يا مجيب دعوة المضطرّين. يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين الذين أعجزتهم الأمراض والأسقام وأقعدهم قضاؤك عن المشي والقيام، هبهم يا ربنا الصحة والعافية، وهبهم الشفاء العاجل منك، فإنه لا شفاء إلا شفاؤك، هبهم شفاءً لا يغادر سقماً، لا إله إلا أنت ولي المؤمنين، وعدة الصابرين، يا أرحم الراحمين..

 اللهم داونا بدوائك، واشفنا بشفائك، وعافنا من جميع بلائك، عافنا في قلوبنا وأرواحنا وأبداننا وأجسادنا واصرف عنا كل أذى وشر يا حي ياقيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين..  اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وأهل فلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، والمصلين فيه واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا واشف مرضانا، وارحم موتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين)

 

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين